Couverture du rapport PREDATORY ECONOMIES IN EASTERN LIBYA

ليبيا: الاقتصاد، الوجه الخفي للحرب (1)

25 مليار دولار هو مجموع الديون المالية المتخلدة بالبنك المركزي الشرقي في ليبيا على مدى أربع سنوات(2015-2019) ،وهو رقم مفزع و لا غرو في ذلك، لكنّه يلخّص بكل دقة تكلفة الانقسام المالي و المؤسساتي الناتج عن الصراع الدائر على الأراضي الليبية.

لم تكن حملة “خليفة حفتر” على طرابلس بداية من أفريل 2019 تلبية لطموح شخصي بالاستيلاء على السلطة فحسب، بل كان الرهان الاقتصادي بالسيطرة على الموارد المالية للدولة أحد أهم محركات هذا الهجوم مع وصول المصارف في المنطقة الشرقية إلى وضع حرج جدا عقب الإجراءات الأخيرة التي اتخذها البنك المركزي في طرابلس. فلم يُترك خيار آخر أمام حفتر بخلاف الرضوخ لحل سياسي قد يضعف من نفوذه أو اللجوء إلى خيار عسكري مقيت لا يزال يثبت محدوديته يوما تلو يوم.

و على أهمية هذه الإجراءات المالية وجرأتها فلا يمكن مع ذلك تحميلها المسؤولية الكاملة في هذا الوضع الخطير لاقتصاد الشرق الليبي، إذ لا يخلو الأمر من تغوّل شبكات فساد مالية كبرى في هذه المنطقة لن يكون “أبطالها” هذه المرّة سوى القادة العسكريون لما اصطلح على تسميته ب”الجيش الوطني الليبي”…

“اقتصاد الجنرالات” :السيطرة العسكرية على الموارد المالية 

أفرز الانقسام السياسي الذي وقع بعد إطلاق عمليّة الكرامة من قبل القائد العسكريّ “خليفة حفتر” في فيفري من سنة 2014 هيكلة جديدة من حيث المؤسسات الرسميّة للاقتصاد الليبي ، حيث حرصت “الحكومة المؤقّتة” برئاسة “عبد الله الثني”  المتمركزة في بنغازي و المسنودة بما يعرف ب”الجيش الوطني الليبي” للسيطرة الشاملة على كافّة النسيج الاقتصادي في منطقة الشرق خاصة، مستفيدة من غياب الأطر القانونية، فتم فصل فرع المنطقة الشرقية من البنك المركزي عن المؤسسة الرسمية في طرابلس و كذلك هو الأمر بالنسبة للمؤسسة الوطنية للنفط.

منذ منتصف سنة 2017 ، و بعد الإعلان النهائيّ عن السيطرة على بنغازي، طالب العديد من ضباط ما يعرف ب”الجيش الوطني الليبي” بشكل غير رسمي بحصّتهم من الأصول الاقتصاديّة و الاستثمارات ، وكان أن تم تنسيق هذا النشاط عبر”هيئة الاستثمار العسكري و الأعمال العامّة” التي تمّ تأسيسها بقرار من “القائد العام للجيش الوطني الليبي” (القرار عدد 56 لسنة 2016) لتفعل فيما بعد بتعيين العقيد “المدني الفاخري” في 5 جوان 2017 كرئيس للهيئة، حيث كُلّفت هذه الهيئة رسميّا بتولي الأصول الثابتة و المنقولة للجيش التي تمّ تجميعها خلال السنوات السابقة ليصبح بذلك الاقتصاد الريعي للحرب مقنّنا و رسميا مشابها في ذلك -أو لنقل متماثلا- بشكل كبير مع نموذج “اقتصاد الجيش” في مصر المجاورة.

تنصّ المادّة الثانية من القرار عدد 136 لسنة 2017 المعدل لبعض أحكام القرار عدد 56 آنف الذكر على أن هذه الهيئة “تضم المشاريع الإنتاجيّة و الخدمية كافة بالجيش ، بحيث تكون تبعية مكتب الأملاك العسكرية و اللجان التابعة له إلى هيئة الاستثمار العسكري و الأعمال العامة”، وهي عبارة فضفاضة قد تضم عديد الأنشطة الاقتصاديّة التي قد لا تتصل مباشرة بالعمل العسكري، وهو ما حرصت النخبة العسكرية على الاستفادة منه إلى الحد الأقصى…

لم يأل القادة العسكريون جهدا في الاستفادة من هذه الهيئة لابتزاز عديد رجال الأعمال المحليين. يروي أحد رجال الأعمال في الشرق الليبي تقديمه لرشوة بلغت قيمتها مئات الآلاف من الدولارات لأحد قادة الجيش في بنغازي في سبيل الحصول على استثمار تجاريّ مهم في المدينة و سجلت عديد المنظمات الحقوقية قيام بعض الفصائل المساندة لحفتر بعمليّات خطف لبعض أفراد أسر الموظفين للحصول على أموال كما حدث مثلا مع مدير البنك التجاري الوطني في بنغازي حيث تم تهديده مقابل تمكين المجموعة المنتمية إلى الجيش من بعض ودائع البنك في البنك المركزي الليبي، نتحدث هنا بالطبع عن الجانب غير المقنن من استغلال النفوذ…

أما واقعيا فقد وضعت اللجنة العسكرية يدها على عديد المشاريع الخاصة بالبنية التحتية العامة و على ثلاث مشاريع رئيسيّة في أكتوبر 2017وهي مشروع إنتاج حقل السرير النفطي و مشروع الكفرة الزراعي و مشروع التوطين بالكفرة دون أي سند قانوني أو اقتصادي يبرر هذه العمليّة من الأساس. من جهة أخرى منحت اللجنة سيطرة واسعة على الشؤون الاقتصاديّة من قبل مجلس النواب الليبي عبر القانون عدد 3 لسنة 2018 المتعلق بإنشاء هيئة الاستثمار العسكري ،حيث تنص الفقرة السادسة من فصله السادس على أن للجنة الحق في التنازل عن الملكية أو إلغاؤها أو نقلها للأصول و الممتلكات و الأراضي التي تقع تحت سلطتها إلى الأجهزة التابعة لها” و تنص الفقرة 7 من المادّة 6 على أن للجنة سلطة حيازة الأصول و العقارات و ممتلكات الأراضي اللازمة لأنشطتها الاقتصادية و الاستثماريّة” مما يوحي بأن الجيش قد أصبح المستحوذ الرئيسي على الممتلكات في شرق ليبيا.

بدأت الحكومتان الموجودتان على الأرض في الحصول على المبالغ الماليّة بصفة متعارضة و منفصلة. فقام المصرف المركزي الليبي و مقره طرابلس بالقيام بعقوبات استهدفت ثلاث مصارف موجودة في الشرق الليبي اثنتان منها للطرف الحكومي و آخر خاص في أواخر شهر أفريل بعد بداية الحرب على طرابلس. و قد بلغت قيمة الدين العام في المنطقة الشرقية ما يقارب ال25 مليار دولار خلال أربع سنوات من 2015-2019 لذلك فإن جميع المصارف في الشرق تتمتع بنظامين للتوزيع، نظام إلكتروني للعمليات الشرعية عن طريق البنك المركزي و نظام يدوي للعمليّات الأخرى غير المشروعة، و قد نتج عن ذلك تراكم ديون المصارف الشرقيّة تجاه البنك المركزي في طرابلس.

انبرى البنك المركزي في طرابلس لمجابهة هذا الوضع بإصدار رزمة من الإجراءات الماليّة في سبتمبر 2018 كان الهدف منها تقليص عمليّات السوق السوداء و حفظ قيمة الدينار و تغيير سعر الصرف مقارنة بالعملات الأجنبية مما أدّى إلى تضاؤل قيمة احتياطيات العملة الصعبة لبعض مصارف المنطقة الشرقيّة في البنك المركزي ، وفي المقابل لم يقم المصرف المركزي باتخاذ أي تدابير من شأنها إنقاذ هذا الوضع أو منع المصارف من الإفلاس، فنفاذ ودائع البنوك الشرقية في طرابلس سيؤدي إلى مشاكل في دفع الرواتب لموظفي المنطقة الشرقية. قد يكون هذا الأمر “عقابا سياسيا” من حكومة الوفاق الوطني لقوات “خليفة حفتر”، و أحد أهم أسباب حملته على طرابلس لكن لا تعدم هذه الإجراءات من أن تكون حتمية لمواجهة الفوضى المالية التي غرقت فيها الساحة الليبية منذ سنوات طويلة.

خطابات الاعتماد: وسيلة أخرى للفساد المالي؟

خطاب الاعتماد هو ضمان بنكي يفيد بأن مدفوعات المشتري المحلي لبائع أجنبي ستكون صحيحة وستسلم  في الوقت المحدد، وعادة ما تطلب البنوك رهن الأوراق المالية أو النقدية كضمان لإصدار الخطاب ، وكذلك فرض رسوم الخدمة.أما  في المعاملات الاحتيالية ، فيحصل المشتري على خطاب اعتماد بمبلغ أكبر بكثير من البضائع المستوردة.

عدّ القطاع المصرفي عموما أحد أهم المصادر الرسميّة لتمويل كافة القوى العسكريّة في ليبيا، حيث يقوم البنك المركزي الليبي بتمويل و توزيع حصص خطابات الاعتماد لكل بنك. و قد أشار أحد التقارير في هذا الصدد إلى أن خطابات الاعتماد الصادرة عن بنوك شرق ليبيا بين 2016 و 2018 بلغت قرابة 1,08 مليار دولار أمريكي و معظم هذه الخطابات لا يمتثل للإجراءات المطلوبة خصوصا في مجال التوريد، حيث من الصعب التحقق من أن البضائع المستوردة مطابقة للأوصاف الواردة في الفواتير المقدمة للبنوك المصدرة.

و نيابة عن المستورد تقوم البنوك بإصدار خطاب اعتماد سيوفر ضمانا ماليا لدى المصدّر، ومع ذلك، و في ظل عدم وجود ضوابط فعالة على القطاع المصرفي والسلطات الجمركية في ليبيا، فقد استخدمت خطابات الاعتماد الممنوحة لرجال الأعمال أو الأفراد المرتبطين بالجماعات المسلحة لشراء العملات الصعبة بسعر رسمي تناهز قيمته 1.4 دينار ليبي بالنسبة إلى الدولار الأمريكي. ثم يتم ضخ العملة الصعبة في السوق السوداء للعملة الليبية من خلال شبكة من وسطاء العملة وبيعها بأسعار السوق السوداء، والتي تقلبت بين 4 دينارات ليبية و 9 دينارات بالنسبة للدولار الواحد بين عامي 2016 إلى 2018.

وقد أدى ذلك إلى استنزاف احتياطيات البلاد من العملة الصعبة وانخفاض قيمة الدينار الليبي، فنتج عن ذلك أزمة سيولة غير مسبوقة وارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية. في الواقع، لوحظ الاستخدام الاحتيالي لخطابات الاعتماد على نطاق واسع في جميع أنحاء البلاد، خصوصا في طرابلس ومصراتة، و منذ ذلك الحين حاولت الإصلاحات الأخيرة التي أدخلها المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق للحد من تأثير هذه الظاهرة عن طريق تقليص الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الدينار في السوق السوداء مقابل الدولار الأمريكي. 

أضحت آلية الفساد المالي هذه مصدرًا كبيرًا لإيرادات وسطاء العملة وشركائهم، و قد شمل هذا الأمر طبعا قادة الجماعات المسلحة التابعة لما يعرف بالجيش الوطني الليبي، فنقل كميات كبيرة من العملات الصعبة في الخارج هو انتهاك للقانون الليبي، الذي يحظر هذه الممارسة خارج القنوات المصرفية التقليدية التي وافق عليها البنك المركزي. و قد ازدهرت الشبكات الوطنية من وسطاء العملة عبر عديد عملية الاحتيال ، وكان لها حرفاؤها في الخارج ، لاسيما في الإمارات العربية المتحدة وتركيا وكذلك تونس. كما تم استخدام نفس الشبكات لتهريب الأموال إلى خارج البلاد.

في تقرير تلفزيوني بث على قناة الحدث (إحدى القنوات الموالية لحفتر) ، أعلن “علي الحبري” محافظ البنك المركزي في المنطقة الشرقية  أن البنك قد استرد 45 مليون يورو من الأوراق النقدية التالفة، والتي تم تحويلها من فرع البنك في بنغازي إلى المقر الجديد للبنك المركزي الشرقي في جانفي 2018 تحت حماية وحدات البحرية التابعة للجيش، وأضاف المحافظ أن الأوراق المالية المتضررة بلغت قيمتها 25 مليون يورو تم بيعها من قبل “مركزي الشرق” لسماسرة العملة المحلية بسعر الصرف الرسمي أي 1.7 دينار لليورو الواحد. في حين أفادت بعض المصادر من بنغازي بأنه قد تم ربط وسطاء العملة الذين اشتروا الأوراق النقدية بقائد بارز من الجيش الوطني الليبي. و من ثم تم تهريب كمية كبيرة من الأوراق النقدية التالفة إلى الخارج حيث تم استبدالها مقابل الأوراق النقدية “الجديدة” بحوالي 80 في المائة من قيمتها الرسمية. وفي وقت لاحق، تم ضخ الأوراق النقدية الجديدة للعملة الليبية في السوق السوداء حيث تم استبدالها بسعر متوسط ​​قدره 5 دينارات ليبية مقابل 1 يورو،و هذا بالتأكيد غيض من فيض، فالعديد من المخططات المالية المماثلة التي تنطوي على تهريب العملة الصعبة كانت شائعة جدا في ليبيا خلال السنوات الأخيرة، وهي لا تمثّل فقط انتهاكا للقانون الليبي، ولكن أيضا استنزافا كبيرا لاحتياطيات البلاد من العملة الصعبة.

Loader Loading…
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *