أليكا / تونس : المعادلة الصعبة بين تجارة المنتجات الفلاحية و الأمن الغذائي

تمّ إعداد هذا المقال بالشراكة بين فاضل علي رزا و فريق برّ الأمان

يسائل اتفاق التبادل الحرّ الشامل و المعمق، الأليكا بالفرنسيّة، مفهوم السّيادة الوطنية : ليس فقط في طريقة التفاوض ولكن أيضا في إلزامية ملائمة التشريع الوطني لمثيله الأوروبي، هذا طبعا دون الأخذ بعين الاعتبار فقدان الدولة لزمام السيطرة على أحد القطاعات الهيكليّة للاقتصاد : الفلاحة.

هل يعتبر انفتاح القطاع الفلاحي التونسي على السوق الأوروبية نعمة؟ إن اتفاق التبادل الحر يمكن أن ييسّر تدفّق زيت الزيتون، الخضر، التمور والنبيذ التونسي إلى الاتحاد الذي يضم 27 دولة بشكل بشكل أسهل. لكن ما هو المقابل ؟ يؤكد المعارضون بأن هذا الاتفاق سيخلق عديد المشاكل بالنسبة للقطاع الفلاحي التونسي. أوّلها يتعلق بالمنافسة غير النزيهة. إذ أنّ القطاع الفلاحي الأوروبي مدعوم بشدّة عبر “السياسة الزراعية المشتركة الأوروبية” (Politique agricole commune, PAC) التي يعدّ من بين أهدافها تحقيق السيادة والأمن الغذائي للاتحاد الأوروبي. لذلك فإنّ الأوروبيين هم أكثر قدرة على الصمود أمام تقلّبات أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية مقارنة المنتجين التونسيين الصغار.

إذ يعدّ هذا القطاع من أكثر القطاعات إستراتيجية بالنسبة للاتحاد: “اذ تصل نسبة النفقات في المجال الفلاحي ضمن ميزانية الاتحاد الأوروبي إلى 38 بالمائة في هذه المرحلة بالرغم من أنها “شهدت تراجعا حادّا منذ السبعينات” (المصدر موقع الاتحاد الأوروبي ، تحديث يوم 4 ديسمبر 2018). مكنّت سياسة الدعم هذه (PAC) أوروبا من أن تصبح مصدّرا خالصا لدول المغرب، في حين أنها كانت المورّد الرئيسي لبضائع المنطقة المغاربية إثر الحرب العالمية الثانية.

لا تتيح الأليكا النفاذ إلى آليّة الدعم هذه للفلاحين التونسيين، إذ على العكس من جيرانهم الأوروبيين فإن القطاع الأوّلي التونسي لم يشهد نقلة نوعيّة. فالفلاحة التونسية معاشيّة بالأساس ولا يمكن أن تكون منافسة بأيّ حال من الأحوال للمنتجات الأوروبية. فحسب أرقام المرصد الوطني التونسي للفلاحة لسنتي 2004 و 2005 فإن ثلاثة أرباع القطع الزراعية تمتد لمساحات تقلّ عن 10 هكتارات (54 بالمائة دون 5 هكتارات و 21 بالمائة بين 5 و 10 هكتارات).

تشير ندى الطريڤي، عضوة مؤسسة لمرصد السيادة الغذائية والبيئية، إلى أنّ تصاعد كلفة الإنتاج وتقلّص هامش الربح وضعف مردوديّة المساحات الزراعية الصغيرة تضع الفلاحين في وضعيّة حرجة دفعتهم في النهاية إلى خياريْن أحلاهما مرّ. فإمّا ترك النشاط الفلاحي أو بيع أراضيهم الزراعية، ممّا عمق في النهاية من ظاهرة “الفلاحين بدون أرض”. فقدَت فوّت الكثير من الفلاّحين في أراضيهم لصالح كبار المستغلين الزراعيين، مما عزّز من سياسة تركّز ملكيّة الأراضي. ويميل هؤلاء المستغلّون الكبار أكثر إلى الزراعات التصديريّة على حساب تزويد السوق المحلية بالإنتاج. نتيجة ذلك، غزت الزياتين كافة البلاد. أخشى ما أخشاه أن لا تستفيد الدولة من هذه السياسة وأن لا تحقّق إلاّ مصلحة كبار المستثمرين.”

الماء مقابل العملة الصعبة؟

تشجّع الدولة  كبار المستثمرين في القطاع الفلاحي و خصوصا منهم الذين ينتجون زراعات تصديرية و من بينها طبعا غراسات الزياتين السقوية” و هذا الأمر من شأنه  خلق العديد من المشاكل” حسب السيدة الطريڤي. “فالاستثمار في هذه الغراسات الأحادية يستنزف الموارد المائية و لا يوفر سوى مواطن قليلة للشغل بشكل قار أو موسمي. أما الإنتاج فهو موجّه أساسا إلى التصدير لا إلى الاستهلاك المحلي، والهدف الوحيد من كل ذلك هو توفير المزيد من العملة الصعبة” وإضافة إلى ذلك فإنه حسب الفصل التاسع من قانون الاستثمار : فإن “للمستثمر حرية تحويل أمواله إلى الخارج بالعملة الأجنبية”، هذا دون أن ننسى أن غياب إجابة من البنك المركزي يعتبر بمثابة الموافقة الضمنية (الفصل 4)” فإذا اعتبرنا أن الهدف من هذه الامتيازات توفير العملة الصعبة، فهيهات” تستنتج السيدة ندى الطريڤي.

لا ينحصر المشكل فقط في تركّز الأراضي فقط بل في استغلال الموارد المائية أيضا. فحسب منظمة الأمم المتحدة للأغذية و الزراعة (FAO)، تأتي تونس في المرتبة 158 عالميا من حملة 180 دولة على مستوى توفر المياه العذبة لكلّ ساكن. فكلما تحدثّ ممثلو الحكومة التونسية عن الأليك، ومن بينهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد، يشيرون إلى أنّ هذه المعاهدة ستمكّن المنتجين التونسيين من تصدير كمّيّات إضافية من زيت الزيتون إلى أوروبا رغم أنّ حصص الواردات الأوروبية من مثل هذه المواد في طريقها إلى التناقص شيئا فشيئا.

مع ذلك فإن من النقاط التي لا تتمّ عادةَ الإشارة إليها فهي أنّ السياسة الفلاحية التي ترتكز على التصدير تستهلك كميات كبيرة من المياه مقارنة بالفلاحة المعاشية. ف”الإنتاج الفلاحي في بلد جافّ جدا مثل تونس لصالح السوق الأوروبيّة يؤدّي إلى استنزاف موارد مائية كبيرة تُخصّص عادة للفلاحة المعاشية” تضيف السيدة الطريڤي.

مصادرة الأراضي والقوانين

إذا دخلت معاهدة الاليكا حيز النفاذ فهل ستطبّق المعايير الأوروبية على المنتوجات المزروعة و المسوّقة في تونس للتونسيين؟ تختلف الإجابات حول هذا السؤال. فمعارضو الأليكا يعتبرون أن هذه المعاهدة تفرض ملائمة المعايير التونسية مع المعايير الغذائية و الصحية الأوروبية و هي معايير لا يمكن للمزارعين المحليين الخضوع لها أو التهرب منها. و هو ما قد يدفع الفلاحين إلى تسويق منتجاتهم خارج الأطر الشرعية.

رغم أن هذا الأمر غريب بعض الشيء، فإن هذا الاتفاق “حين دخوله حيز النفاذ، سيتجه تدرجيّا إلى تناسق القوانين المنظمة للتجارة والاقتصاد إضافة إلى التشريعات مع المعايير الأوروبية” حسب الموقع الرسمي للأليكا.

و تزيد ندى الطريڤي على ذلك بالقول : “إن الباب العشرين من اتفاقية الأليكا في نسختها لسنة 2016 وفي فصلها الأول و فصلها السادس (موائمة القوانين) تجبر تونس على ملائمة تشريعاتها مع “المدونة القانونية الأوروبية”. وعندما نتحدث عن “تشريعات” على وجه العموم، فإن ذلك لا ينحصر البتة في التشريعات و الأنظمة المخصصة لإجراءات التصدير. بذلك فإن مفهوم التقارب المشار إليه ينتحي نفس التوجه الذي ذهب إليه الاتحاد الأوروبي من خلال برنامج الملائمة الموجود في الملحق الثاني الذي لم يتم صياغته بعد، و هو ما يمكن أن نأوّله على أنه تطبيق للمعايير الأوروبية في تونس.”

“عندما نطبق مثل هذا الامر في بلد لا يمكن له أن يصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي، تصبح هذه الإجراءات صنفا من صنوف الاستعمار”، يعلّق على ذلك شفيق بن روين رئيس المرصد الاقتصادي التونسي.

أما في معسكر مؤيدي اتفاق الأليكا، فإن غازي بن أحمد لا يؤيد تماما مثل هذا الرأي. ” فالتقارب التشريعي بين الاتحاد الأوروبي و تونس لا يعني التوافق التام و الآلي بين التشريع التونسي والتشريعات الأوروبية و إنما توافقا مع المعايير و المبادئ الدولية (معايير المنظمة الدولية للتجارة، منظمة العمل الدولية…)” حسب ما أورده في الأسطر الأولى من دليل توجيهي حول الاليكا أنجزته منظمة  “المبادرة الوطنية للتنمية” (MDI) التي يترأّسها و “مؤسسة كونراد أديناور” (KAS) . فهذه المنظمة الأخيرة تتبع الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) ، و هو حزب يميني ألماني  ليبرالي من الناحية الاقتصادية، و هو حزب المستشارة الحالية “أنغيلا ميركل”. و مؤلف هذا الدليل التوجيهي قد سبق له العمل كمحلل اقتصادي رئيسي في المفوضية الأوروبية بين 1999 و 2006 حسب ما ورد في صفحته بموقع “لينكدين”. و أثناء مباشرته لهذا المنصب كانت له مسؤولية “صياغة توصيات تساعد على تطوير تنافسية صناعة النسيج و الملابس الأوروبية”. أما عن الوثيقة التوجيهية فكان الهدف منها “عرض الخطوط العريضة لاتفاقية “الأليكا”” و قد أتيح للعموم في الموقع الرسمي للأليكا الذي يتبع لرئاسة الحكومة التونسية و في الموقع الرسمي للاتحاد الأوروبي. و يعبّر هذا الدليل عن رؤية مشتركة للطرفين. كما يشيرإقناسيو قارسيا برثارو (Ignacio Garcias Bercero) مفاوض الرئيس في ملف الأليكا في نفس سياق كلام بن أحمد إلى أن “الأليكا تتيح لتونس فرصة ملائمة قوانينها مع القوانين والتنظيمات الأوروبية ولكن فقط في المجالات التي تختارها تونس والتي تهمها بشكل أو بآخر” . وهي “حريّة مشروطة” كما تفيد مهى بن ڤدحة، مديرة البرامج القتصادية، التي تذكّر بأنّ عديد القروض التي قدمها الاتحاد الأوروبي إلى تونس كانت مقترنة بتعديلات مطلوبة على الترسانة التشريعية التونسية.

رهان السيادة و الأمن

” ليدنا 120 ألف عامل في مجال جني الحبوب كما نحرص على إبقاء سعر منتوجاتنا ثابتا للحفاظ على مواطن الشغل. فنحن لسنا في حالة تنافس مع الآخرين ، خصوصا منهم الفلاحين الأوروبيين” هكذا صرّح أحد ممثلي الاتحاد التونسي للفلاحة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية (FTDES) في لقاء نشر في دراسة حول تبعات اتفاقية الأليكا قام بها المنتدى.” إذا تم توسيع اتفاقية التبادل الحر على هذا القطاع فإني أضمن لكم أن هذا العدد من اليد العاملة سيختفي”.

فتونس توشك أن تفوّت تماما من قدرتها على إنتاج ما يسميه الباحثون ب”المواد الغذائية الإستراتيجية “على أراضيها، و من بين ذلك الحبوب بالطبع. و مثل هذا الأمر يندرج ضمن مسار تاريخي طويل من السياسة الزراعية و التجارية الأوروبية تجاه شمال إفريقيا كما تبيّن ذلك أعمال جورج وايت، الأكاديمي الأمريكي المختص في العلوم الاجتماعية.

“يمكن أن نلمس التبعية المتنامية لتونس و جيرانها المغاربيين تجاه المجموعة الأوروبية خلال العشريات الثلاث الأخيرة بقوة في مجال التجارة الفلاحية. فتحوُّل المجموعة الأوروبية من مورّد شامل للمنتجات الفلاحية منذ نشأته في 1957 إلى مصدّر شامل للمواد الغذائية بفوائض مهمة منذ سنوات الثمانينات قد أثّر بشدّة على الدول المغاربية (ودول المشرق العربي كذلك). و ساهمت سياسات الإدماج الأوروبية و اتفاقيات الشراكة مع الدول المغاربية من جهتها في تقليص الصادرات الفلاحية المغاربية و تعميق العجز الغذائي الذي سعت الدول المغاربية لتفاديه عبر توريد المواد الغذائية “حسب ما أورد وايت في كتابة دراسة مقارنة للاقتصاد السياسي لتونس و المغرب الذي نشر سنة 2001.

” لقد تفاقم العجز الغذائي في تونس أواخر الستّينات لدرجة أن الدولة قامت باستيراد عديد المواد الغذائية الإستراتيجية لتزويد العدد المتزايد من السكان”…توجد بلا شك أسباب داخلية و خارجية لهذا الإشكال، و لكن من المهمّ ربط تطّور الفلاحة المغاربية بالسياسة الفلاحية المشتركة للاتحاد الأوروبي” وفق تقدير وايت. يستنتج هذا الأستاذ بجامعة “سميث كوليج” : “أن استيراد المواد الغذائية أيْسر وأقل كلفة لصانعي القرار المغاربيين مقارنة باتخاذ التدابير وتقديم الحوافز المناسبة للفلاحين المحليين”. ولعلّ ارتجاعات وأصداء خيار الاستسهال هذا تلاحقنا اليوم أكثر من ذي قبل.

 

 

 

 


Posted

in

by

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *