بلدية المرسى ووالي تونس: سلطة القرار وحدود التطبيق

تطالعك من بعيد كلمات “المقهى الكبير” و”سانت-هونوري” بأحرف كبيرة و مذهبة. هذه اللافتات هي في الواقع لمقهى-مطعم و لمحل بيع مرطبات فاخر في ضاحية المرسى الراقية الواقعة شمال العاصمة التونسية. من الصعب أن يتخيل المرء للوهلة الأولى أن هذا المكان الرائق هو في الحقيقة ساحة صراع بين السلطتين المركزية و المحلية ,طرفاها  الوالي بصفته ممثل الحكومة على المستوى الجهوي من جهة و البلدية التي تم انتخاب أعضاء مجلسها حديثا, من جهة أخرى .

في الواقع فإن هذه الأرضيات التي تم تشذيب أعشابها بعناية و هذه المحلات التي تحتوي على نوافذ واسعة و هذه الباحات الفسيحة التي تعطي إطلالة على البلدية التاريخية المجاورة “قرطاج” هي مبنية…دون رخصة. فمنذ سنة 2016 لم يتحصل مالكو هذه المحلات على أي ترخيص. و قد قامت النيابة الخصوصية تبعا لذلك بإصدار قرار في الهدم بقي في ما بعد حبيس الأدراج. وبعد أشهر قليلة من تنظيم أول انتخابات بلدية حرة في تاريخ البلاد قام فريق المجلس البلدي الجديد المنتخب بإعادة طرح هذا الملف و غلق هذه المحلات تمهيدا لهدمها في ما بعد. لكن, و بحركة مسرحية, انبرى والي تونس إلى التصدي لهذا القرار و قام بإيداع شكوى في المحكمة الإدارية ضد البلدية. ” لقد فكرنا جديا في الاستقالة الجماعية”, هكذا أسر لنا أحد أعضاء المجلس البلدي بالمرسى, هذه البلدية الشاطئية التي تعد قرابة المائة ألف ساكن و التي يتمتع مجلسها البلدي بقاعدة تعاطف و دعم واسعة بما أن المستقلين المتواجدين فيه قد استطاعوا إزاحة الأحزاب السياسية عن المشهد بسيطرتهم على 20 مقعدا من ضمن 30 إجمالا و قد نجحوا في ذلك في الأحياء الراقية و الشعبية على حد سواء.

Bâtiment “Grand Café” en construction juillet 2016. © Google Maps

“نعم أنا في حالة خرق للقانون” هكذا أعلن لنا “خيفر دبيش” مالك المحل. و قد علل ذلك بأنه قد قام بكل الخطوات اللازمة للحصول على رخصة البناء غير أنه قد اصطدم بمعارضة رئيس النيابة الخصوصية السابق لأسباب “جهوية” على اعتبار أن المالك أصيل مدينة “مكثر” الواقعة وسط البلاد و التي كانت مقر ولاية خلال الفترة الاستعمارية قبل أن تصبح معتمدية بعد الاستقلال. فهو بالتالي ليس ب”مرساوي “أصيل ,تلك الكنية التي كان يحملها السكان “البلديون” للمرسى و التي كان نزلها الحالي مقر الإقامة الصيفية للباي في سابق الأزمان.

“سابقا (أي زمن بن علي) كنا نستطيع أن نتدبر أمرنا دائما” أردف محدثنا,” فعلى سبيل المثال كان بوسعنا انتداب عدد من أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل وهو ما من شأنه أن يرضي الوالي و ينظم أكثر وضعية المحل. فالكل معني بالربح ضمن هذه المعادلة”. و لكن بالنسبة لرئيس البلدية الجديد سليم المحرزي فإن القانون هو القانون و تعلة الجهوية ليست حجة لقائلها. فمثال التهيئة يخصص مساحة سكنية ضمن هذا المجال و إعطاء ترخيص لأنشطة مخالفة يعد انتهاكا للقانون.

Kaifer Debbich lors de l’interview en octobre 2018 au Grand Café

كان يمكن لهذه الحادثة أن تظل معزولة و أن لا تتجاوز خانة التصرفات الفردية. لكنها مع ذلك طرحت لنا إمكانية التفكير في حدود السلطة المحلية و إبراز الصراع بين ثقافتين سياسيتين مختلفتين, إحداهما تلتف بالتدابير غير القانونية و تمثل السلطة المركزية بعقليتها الموروثة عن النظام السابق و أخرى تمثل السلطة المحلية كوعاء لجيل جديد من السياسيين يحلم بهامش أكبر من الاستقلالية ضمن الأفق الجديد لدولة القانون.

سلطة شكلية في اتخاذ القرار و عجز في المبادرة

تواترت البيانات و الندوات الصحفية و البلاتوهات التلفزية بين الشادلي بوعلاق والي تونس و سليم المحرزي رئيس بلدية المرسى و قد تمحورت كلها حول الجانب القانوني و تركت جانبا البعد السياسي للمسألة. فهل تستطيع البلدية التي كانت خاضعة لسلطة الوالي و وزير الداخلية طيلة 60 سنة من الزمن أن تحزم أمرها بالانعتاق من هذه الوصاية و تطبيق قراراتها الخاصة؟ نعم ,حسب منطوق النصوص الحالية و لكن تطبيق مبدأ التدبير الحر الذي أقره دستور سنة 2014 قد اصطدم بعديد العوائق على أرض الواقع و بتأويلات السلطة المركزية. فهي تخشى من إسداء صلاحيات كثيرة و بشكل سريع إلى الجماعات المحلية المنتخبة حديثا.

/Détail – Plan d’aménagement La Marsa – Grand Café https://geopau.gov.tn/app_sig_pau_tunisie_public

مع ذلك , و حسب مجلة الجماعات المحلية التي من المفترض أن تنظم عملية اللامركزية و التي تم المصادقة عليها بسرعة قبل أيام قليلة من الانتخابات فإن رئيس المجلس البلدي يتمتع بعدد من السلطات الترتيبية. و لكن عند التنفيذ ينبغي للشرطة البلدية أن تأخذ الضوء الأخضر من السلطات الأمنية المحلية. لذا فهناك شكلان من الوصاية المفروضة, أحدها من قبل رؤساء اليلديات المنتخبين و الآخر من قبل وزير الداخلية.

لم تكن بلدية المرسى نشازا من البلديات التي كابدت من ذلك الإشكال فقد جمع النقاش و التوتر حول هذا الموضوع كل رؤساء البلديات التونسيين. ففي لقاء بين المسؤولين البلديين المنتخبين التونسيين و الفرنسيين تم تنظيمه شهر أكتوبر في هذه البلدية, اشتكى أحد رؤساء البلديات من هذه الإجراءات المعيقة للعمل البلدي قائلا “يجب التواصل كتابيا مع رئيس مركز الشرطة الذي ينبغي عليه استشارة رئيسه المباشر لكي يحصل على الضوء الأخضر للتدخل…مما يترتب عنه الكثير من الأوراق غير اللازمة و الوقت الضائع”. كما أشار رئيس بلدية آخر من جهة المهدية بمرارة إلى تعامل مماثل من قبل عون من أعوان الشرطة البلدية الذي قال له ببرود “…في نهاية الأمر لست أنت من يصرف لنا رواتبنا,بل وزير الداخلية هو من يقوم بذلك.” و هذا ما يعيدنا إلى الترتيب الذي يشهد على الغموض الذي يسود الميدان و يشل قدرة المسؤولين المنتخبين على التحرك.

“عملية الترقيع الأمنية”

يتبع أعوان الشرطة البلدية الذين يسمون رسميا ب”أعوان التراتيب البلدية” قوات الأمن الوطني منذ 2012. و قد قام هذا الجسم الذي يتبع ماليا و إداريا للبلديات بالتحرك للالتحاق ب”الداخلية” عسى أن يتمتع بالامتيازات التي يحظى بها “زملاؤه”. ولم تسع سلطة رئيس وزراء النهضة حينذاك “حمادي الجبالي” معارضة هذا المطلب في ظل سياق اجتماعي و سياسي يكتنفه التوتر. فبغض النظر من أن المجالس البلدية في تلك الفترة غير منتخبة, وهو ما من شأنه أن يمس من سلطتهم السياسية , فإن “الشؤون المحلية” قد تم فك ارتباطها عن وزارة الداخلية و تحصلت على وزارتها الخاصة ثم تم إحداث شرطة “بيئية” ووضعت إثر ذلك تحت سلطة رؤساء البلديات. و هذه الشرطة لم يكن لها من دور سوى العناية بمسائل تهم النظافة و الصحة العامتين لكن تنقصها الموارد لذلك و حتى القليل المتوفر منها “لم يتم توزيعه بعدالة” كما أفادت بذلك رئيسة بلدية رواد المحاذية لبلدية المرسى.

من المفارقات اليوم أن أسوار وزارات العاصمة هي التي شهدت مخاض ولادة المركزية و هي تواصل الآن الإشراف عليها. و آخر الأمثلة على ذلك زمنيا القرار الحكومي الذي يحتوي على مثال نظام داخلي للبلديات يمنع من خلاله التصوير و تسجيل الفيديوات و البث المباشر. يستطيع رؤساء البلديات -رغم ذلك- أخذ منحى آخر و إلا فإن هذا المثال سيصبح المرجع الرئيسي للعمل. حينذاك سنشهد انتكاسة كبيرة إلى الوراء مقارنة حتى بالنصوص التي تم سنها في ظل السلطات الديكتاتورية المطلقة لبورقيبة و بن علي. وقد قام عدد من الجمعيات التونسية -إزاء ذلك- بتقديم دعاوى تجاوز سلطة في هذا الموضوع للمحكمة الإدارية.

 

 


Posted

in

by

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *